بلا قيود ( 8 )
المعازمة بين الواقع و الحقيقة .
... تفضل ... ازداد ... لا تعازم ...كُـل... خذ هذه ... لا تردني ... والله ستأكل هذه ... حلفت ..!؟
مخطئ من قال أنني , متمرد على العادات و التقاليد أو ضد الأعراف السائدة في المجتمع , فواقع الشيء يخالف حقيقته , في كثير من الأحيان ...... , كل من نزل بيتي , فهو ضيفا علىّ , له حقوق الضيف و آداب الضيافة , والرسول صلي الله عليه وسلم يقول : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) صدق رسول الله .
أولا : التعريف .
المعازمة ... هي لفظه محليه , وتأتي بلفظه أخرى , وهي : العِــزام , بكسر العين , وهي قريبه من كلمة العَــزائم أي الــولائم ....... ويكون معناها في ما يخص بالضيافة و معاملة الضيف , هي : دفع وحث الضيف , على تناول مزيدا من الطعام ... والذي يلتزم بالمعازمة هو المُــضيف ( صاحب البيت ) .
ثانيا : واقع المعازمة اليوم .
إذا كنا نعني بالمعازمة : ترغيب الضيف و تشجيعه على تناول مزيدا من طعام مـضيفه , بأسلوب سهل ولين , يوحي بأن الضيف مخير بين القبول و الرفض ... فهذا أمر حسن .... لكن اليوم أستبعد هذا المعنى , وأستبدل بمعنى أخر , لو وزن بميزان العقل والمنطق , لظهرت سلبياته الكثيرة و تضائلت إيجابياته , فأصبح ضره أكثر من نفعه . فالمفهوم الجديد للمعازمة , اليوم هو : أن يلزم المــضيف على ضيفه تناول مزيدا من الطعام , بإصرار منه و إلحاح , مستخدما المراوغة الكلامية و أسلوب الإقناع .... حتى لو وصل الأمر , بأن يرفع الطعام بيده و يضعه في فم ضيفه ..!!!! . وهذا المعنى أطلق عليه أسم " المعازمة الشديدة " ... وهو موضوع حديثي في هذا المقال . وإذا أمعنا التفكير , لوجدنا أن بعض مناطق السلطنة , وخاصة القرى النائية , تتقيد بالمعازمة الشديدة , لدرجة أن البعض يتجنب زيارة أحد , في هذه المناطق , بعدا عن الحرج و تهربا من ثقل المعازمة ... ولكل قاعدة شواذ .
ثالثا : قاعدة " لا ضرر ولا ضرار " .
لو وضعنا المعازمة الشديدة تحت المجهر , لتكشف لنا ، أنها تنافي مبادئ الصحة العامة و تناقض سلوك الفطرة , وإليكم التوضيح , في عدة نقاط :
1- أنها تخالف دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم , في أكل الطعام , على أن المسلم يأكل قدر حاجته , وذلك ما يحقق له الصحة والعافية والنشاط والحركة , ويعينه على أداء عمله والوفاء , بوجباته الدينية والاجتماعية , و حديث المقداد بن معدي كرب ، يوضح فيه الرسول الكريم , ضرورة التقسيم ( فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه ) صدق رسول الله ... بالله عليكم , هل المعازمة الشديدة ، تحقق للضيف فرصة تقسيم طعامه إلي ثلاثة أثلاث ....... من واقع تجربتي أقول لا , وخاصة , إذا تم دعوة الضيف , لأكثر من بيت , من قِـبل أقارب ( صاحب البيت ) , فيدخل مرحلة الشبع المفرط , المذموم .
2- إذا تم تقديم مأكولات , لضيف لا يرغب في تناولها , لأسباب صحية أو لأسباب نفسية , فقد عهد على نفسه بتركها , فتجد ( صاحب البيت ) يلح على ضيفه بتناولها , بدون أن يلتمس له عذر أو يقدر سبب رفضه , فيقع في أمر لا تهواه نفسه و ضد رغبته ... ومثالا على ذلك , تقديم مشروبات غازيه , علما بأن الضيف ترك شربها من زمن و لأسباب طبية , وهو على قناعة بها , أو ربما يكون الطبيب منعه من ذلك , فيجد العنت و الإلزام على الشرب ، فيقع في مأزق ... وكذلك شرب الشاي بعد وجبة الغداء مباشرتا , فالضيف في تصوره و قناعة نفسه , أنه ضرر , ... ولكن سيشربه رغم أنفه ... !!؟ وإذا أعلن رفضه تحول المجلس إلي سوق العيد ... !!؟؟ .
و تحضرني قصة واقعية , بطلها زميلا لي في العمل , مفادها أنه لم يسقط السمك في بطنه إلا مرتين , في صغره , ومنذ ذلك الوقت , تركه تركا لا رجعة فيه , وهو الآن يبلغ من العمر 26 سنة , طلق السمك , لأن نفسه تعافه ولا تستسيغه ... فحكي لي , أنه ذات يوم نزل ضيفا على أحد أقاربه , فكانت وجبة الغداء " أرز بالسمك " , ماذا تتوقعون أن يحدث ... زميلي هذا , أستبسل في إظهار جميع حججه و دلائل عدم رغبته في تناول السمك , وأسبابه و ظروفه ... متوسلا لهم , مدافعا عن نفسه , محاولا إقناعهم ... ولكن كل ما قاله ضرب به عرض الحائط ... وأكل السمك ... وقبل غروب الشمس , حمل على الأكتاف إلي أقرب عيادة طبية , يعاني من ارتفاع درجة الحرارة و حكة شديدة في جلده و انتشار الحبوب على جسده ... أستلقي على سرير العيادة عدة ساعات , و الحقن تنهال عليه من كل حدب وصوب ... !!!؟؟ ((هذه هي غصص المعازمة الشديدة )) ... أقول لهم : كادوا أن يقتلوه قاتلهم الله , ماذا يضيرهم لو أنهم قبلوا عذره , واستسلموا للواقع , بأن وفروا مادة غذائية , أخرى بدلا عن السمك , بشكل سريع , مثل " اللبن و السلطة و الأرز " ... وكفى الله المؤمنين شر القتال .
3- قال تعالى ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) صدق الله العظيم , ما يظهر لي , أن المعازمة الشديدة في مجملها , تكليف الضيف فوق طاقته , بإلزامه , بأكل الكثير .
رابعا : " المعازمة الشديدة " في كتب الآداب العامة .
كثيرُ هي الكتب التي تبين الآداب الإسلامية , فيما يخص بأعمال الفرد في حياته اليومية , مثل آداب ( اللباس – النوم – الجماع – الأكل و الشرب – الضيافة ) , وما يهمنا هنا , هي آداب الضيافة ... و أطلب من القارئ العزيز , أن يحكم بنفسه , عما إذا كانت المعازمة الشديدة من آداب الضيافة , من خلال , بيان العلماء , لآداب الضيافة و آداب الأكل و الشرب , في كتبهم :
· كتاب قواعد الإسلام , للإمام الجيطالي , ج 2, صفحة 270 ... :
" الخامس " أن لا يقول لرفيقه كُـــل إن كان الطعام لغيرهم , وإن كان لهم , فلا يزيد على قوله : كُـــل كُـــل , فأن ذلك إلحاح , وأما اليمين , فممنوع رأسا على الطعام , لأنه أهون من أن يحلف عليه .
· كتاب " منهاج المسلم " للشيخ أبو بكر الجزائري ، ص 145 .... :
10 – أن لا يُحَـوّجَ رفيقه أو مُـضيفَهُ إلى أن يقول له : كُــــل , ويلح عليه , بل عليه أن يأكل في أدب كفايته من الطعام ، من غير حياء أو تكلف للحياء , إذ في ذلك إحراج لرفيقه أو مُـضِيفِهِ , كما فيه نوع رياء , الرياء حرام .
· كتاب " قاموس الشريعة " للعلامة جميل بن خميس السعدي , ج 11 , ص 7 ... :
وقيل : لكل شئ فضيحة , وفضيحة القري اتساع البطون , وقال رجل لبعض إخوانه : كُــــل كُـــل , فقال : عليك تقريب الطعام , وعلينا تأديب الأجسام .
خامسا : ما هو رأي الشباب في " المعازمة الشديدة " ؟
توجهت بهذا السؤال إلى بعض زملاء العمل , فأجابوا :
الأول : من ولاية " بدبد " قال ... أنها تورث الضيق .
الثاني : من ولاية " صور " قال ... عادة ليست طيبة .
الثالث : من ولاية " بُـــهلا " قال ... غلو و تطرف , ثم أدلى بوجهة نظر .... مفادها :
أن السفر في الماضي يختلف عن الحاضر ، ففي الماضي , يتجشم المسافر الصعاب ويتحمل المشاق ويعاني عذابه , على أن ظهور الدواب هي وسيلة التنقل ..... فحق على المــضيف ، أن يحث ويشجع ضيفه , على تناول المزيد من الطعام " بقليل من الإلحاح " حتى يقوى بدنه و يسترد قوته . أما اليوم فالسفر من اليسر بمكان , فمثلا لو جاءك ضيف من ولاية " صحار " , سيأتي بسياره مريحة , مكيفة ، تقطع المسافة في زمن قصير ... ولعله يقف في محطة , لتزود بالوقود , ولنفترض في منتصف الطريق إلى " بُـــهلا " ... ( برج الصحوة ) ... لا يمنعه أن يشتري زجاجة ماء , ويشرب العصير , وربما يأكل وجبة خفيفة ,[ وهي من عادة الشباب ] .....فــيصل إلى صاحب البيت , شبعان .. ريان .. نشيط , فلا داعي من المـــضيف , أن يشد عليه في العِــزام .
سادسا : سأكرم ضيفي , بــطريقتي الخاصة .
رأيي الشخصي , أن الضيف في هذا الزمان يحتاج , إلى ضيافة من نوع خاص ، حيث تقدم له , مائدة غذائية و مائدة سياحية و مائدة ثقافية و مائدة نفسية ... ثم يرجع إلى بيته , مستفيدا من زيارته , بمعنى الكلمة , حيث علقت في ذاكرته , ذكريات جميلة وأفكار جديدة ومواقف مثيرة . وأقصد بذلك , إعطاء الضيف , في فترة زيارته , مــا يلي :
# مائدة غذائية : أي طعام ( كافي , متنوع , مغذي , لذيذ ) بلا تكلف و لا إسراف .
# مائدة سياحية : جولة في الولاية ( قلاع وحصون – منتزه – مناطق أثريه – مصانع - .... )
# مائدة ثقافية : التعرف على ( مكتبة عامة – معرض – شخصية بارزة - .... ) فتح باب الحديث في ( قضايا معاصرة – مشاريع خيرية – تبادل الأفكار و جهات النظر - .... )
# مائدة نفسية : ( توفير جو نفسي مريح – إبعاده عن جميع المنغصات – الاهتمام , بغفــوة , قصيرة , بعد وجبة الغداء , حتى يستعيد الضيف , نشاطه بعد يوم حافل بالإنجازات - .... )
>>> كل هذا يتم بتنظيم الوقت , و رسم خطة محكمة .
سابعا : الخاتمة .
بعد هذا العرض الطويل , أختم حديثي ، بعدة نقاط :
@ الضيوف أنواع ، وكل نوع ، له معاملة مختلفة ... وصاحب البيت أدرى وأعلم بحال ضيفه .
@ للضيافة آداب ... وحقوق متبادلة , بين الضيف و المــضيف .
@ أرشد الجميع إلى قراءة , " كلمة جامعة " لمصحح كتاب " قواعد الإسلام " ج2،ص278.
@ التعامل مع المعازمة ,يكون " بدون إفراط و لا تفريط " و كل شئ زاد عن حده انقلب ضده .
@ ما أستطيع قوله , أن المعازمة الشديدة , عادة متوارثة , أكتسبها الأباء من الأجداد , وانتقلت إلى الأبناء , فأصبحت سمة مميزة لذلك المجتمع و سلوك اجتماعي ، يعمل به الجميع .
& وأخيرا , أقول , ما قاله الأمام أبو حنيفة رحمة الله " قولنا هذا رأي , وهو أحسن ما قدرنا عليه , فمن جاءنا بأحسن من قولنا , فهو أولي بالصواب منا " .